الصحة النفسية في بيئة العمل: العمل لا يجب أن يكون عبئًا على الروح

نقضي في أماكن العمل جزءًا كبيرًا من حياتنا، ساعات طويلة كل يوم، على مدى سنوات. ومع ذلك، نادراً ما نتحدث بوضوح عن الصحة النفسية في العمل، وكأنّها موضوع هامشي. الحقيقة أن العمل لا يؤثر فقط على مدخولنا المالي أو مسارنا المهني، بل ينعكس بعمق على مشاعرنا، استقرارنا الداخلي، وعلاقاتنا حتى خارج المكتب.

أن نعمل في بيئة سليمة نفسيًا، لا يعني فقط أن نكون مرتاحين، بل أن نكون أكثر إبداعًا، إنتاجية، وتوازنًا. أما تجاهل الصحة النفسية في مكان العمل، فيحوّله إلى مصدر استنزاف مستمر للطاقة، ينعكس على الحياة كلها.

ما المقصود بالصحة النفسية في العمل؟

الصحة النفسية في بيئة العمل تعني:

• الشعور بالأمان النفسي والعاطفي

• القدرة على التفاعل بإيجابية مع الزملاء

• التعامل مع ضغوط العمل دون انهيار

• الإحساس بقيمة الذات في مكان العمل

• التوازن بين الحياة المهنية والشخصية

قد يبدو هذا بسيطًا، لكنه في كثير من أماكن العمل مفقود أو مهمَّش.

مظاهر تدهور الصحة النفسية في العمل

تظهر علامات تدهور الصحة النفسية بطرق متعددة:

• القلق الدائم من الحضور للعمل

• الإرهاق الذهني حتى بعد ساعات الراحة

• الشعور بعدم التقدير أو الإهمال

• صعوبة في التركيز والإنجاز

• كثرة التغيب أو التفكير في الاستقالة

• اضطرابات النوم أو الشهية

هذه الأعراض ليست دلالات على "ضعف الشخصية"، بل مؤشرات على أن شيئًا ما في بيئة العمل بحاجة إلى مراجعة.

الأسباب الشائعة لضعف الصحة النفسية في العمل

1. ضغط العمل المفرط

عندما تكون المهام كثيرة، الوقت ضيق، والتوقعات غير منطقية، يشعر الموظف وكأنه يركض داخل دائرة لا تنتهي.

2. غياب التقدير

العمل بجد دون أي اعتراف أو كلمة شكر، يجعل الموظف يشعر وكأن وجوده غير مُلاحظ، مما يقتل الحافز.

3. العلاقات السامة في مكان العمل

وجود زملاء أو رؤساء يتسمون بالسلبية، التسلّط، أو التحقير المستمر، يخلق بيئة مليئة بالتوتر والخوف.

4. غموض الدور الوظيفي

عدم وضوح المهام والمسؤوليات يؤدي إلى الحيرة، الصراع، وإحساس مستمر بعدم الأمان.

5. غياب التوازن بين العمل والحياة

العمل لساعات طويلة دون راحة، أو الشعور بالذنب عند أخذ إجازة، يجعل الحياة تدور كلها حول العمل، مما يُنهك النفس.

لماذا يجب على المؤسسات أن تهتم بالصحة النفسية؟

ليست رفاهية أو ترفًا. بل إن تجاهل الصحة النفسية في بيئة العمل يؤدي إلى:

• انخفاض الإنتاجية

• زيادة نسبة الغيابات

• ارتفاع معدل الاستقالات

• ضعف الإبداع

• انتشار جو من التوتر والقلق

في المقابل، الموظف الذي يشعر بالأمان والدعم، يعطي أفضل ما لديه، ويشعر بالانتماء الحقيقي للمكان.

كيف نحسّن الصحة النفسية في العمل؟

أولًا: ما يمكن أن تفعله المؤسسات

1. تشجيع بيئة احترام وتقدير
   الكلمة الطيبة، الاعتراف بالجهد، وإشراك الموظف في القرارات يشعره بقيمته.

2. إتاحة فرص الراحة والإجازة
   منح فترات راحة منتظمة، وعدم الضغط في أوقات خارج الدوام.

3. فتح قنوات للتواصل الآمن
   إمكانية التحدث عن المشاكل النفسية أو المهنية دون خوف من التبعات.

4. تقديم دعم نفسي مباشر
   توفير أخصائيين نفسيين أو ورشات توعية للتعامل مع الضغط والتوتر.

ثانيًا: ما يمكن أن يفعله الفرد لنفسه

1. الحديث عند الشعور بالضغط
   لا تُكبت مشاعرك، تحدث مع من تثق به، أو اطلب مساعدة مهنية عند الحاجة.

2. تحديد الحدود
   لا تسمح للعمل أن يغزو كل تفاصيل حياتك. ضع حدودًا واضحة بين وقت العمل ووقتك الخاص.

3. الاهتمام بالنوم والتغذية
   جسد متعب = نفس مرهقة. احرص على النوم الكافي والأكل المتوازن.

4. تنظيم الوقت وتحديد الأولويات
   قلل من التشتت، وقسّم المهام حسب الأولوية، واسمح لنفسك بالتوقف.

5. تذكير الذات بالقيمة الشخصية
   قيمتك لا تُقاس فقط بنتائج العمل، بل بإنسانيتك وأخلاقك وجهدك المستمر.

هل يمكن تغيير ثقافة العمل المرهِقة؟

نعم، لكن التغيير يبدأ بالوعي. حين يبدأ الأفراد بالمطالبة بحقوقهم النفسية، وتبدأ المؤسسات بفهم أن راحة الموظف ليست رفاهية بل أساس، يبدأ التغيير الحقيقي.

العالم بدأ يتحدث اليوم أكثر عن أهمية الرفاه النفسي في العمل، بعد أن أثبتت الدراسات أن الموظف السعيد يُنتج أكثر، ويغيب أقل، ويبتكر أكثر.

تأمل ختامي

العمل مهم، لكن الإنسان أهم. لا نجاح مهني يبرر خسارة الصحة النفسية. مكان العمل يجب أن يكون مساحة تنمية لا استنزاف، مكانًا للنمو لا للذوبان.

فلنطالب بثقافة عمل أكثر إنسانية، ولنكن رحماء بأنفسنا حين نشعر بالتعب. ليس علينا أن نتحمل كل شيء بصمت. فالصحة النفسية في العمل ليست رفاهية... إنها ضرورة.